لطالما كانت الثقافة السائدة في اليمن تُفضل العمل الحكومي على أي مسار مهني آخر. لعقودٍ طويلة، اعتُبر العمل في القطاع العام ضمانًا للاستقرار الاقتصادي والاجتماعي، حتى بات سؤال “هل لديك وظيفة حكومية؟” معيارًا رئيسيًا عند تقييم فرص الزواج. كان الحصول على وظيفة حكومية بمثابة تأشيرة للقبول الاجتماعي، حيث كانت تُوفر هذه الوظائف رواتب ثابتة ومزايا تضمن نوعًا من الأمان الوظيفي. ومع ذلك، جاءت الأوضاع الراهنة، خاصة مع انقطاع الرواتب الحكومية لسنواتٍ متتالية، لتكشف عن هشاشة هذا النموذج التقليدي وعدم قدرته على توفير الأمان الاقتصادي المنشود.

لقد كشفت الحرب المستمرة منذ أكثر من عقد عن نقاط ضعف متجذرة في النموذج الاقتصادي اليمني، حيث أصبح واضحًا أن الاعتماد المفرط على الوظائف الحكومية لا يمكن أن يُحقق استقرارًا ماليًا طويل الأمد. في الماضي، لم تكن ريادة الأعمال تحظى بمكانة مرموقة في المجتمع، بل غالبًا ما كانت تُعتبر ملاذًا أخيرًا لمن لم يحالفهم الحظ في الالتحاق بوظيفة حكومية مضمونة. ومما زاد الطين بلة، أن السياسات الحكومية لم تضع الأسس اللازمة لدعم بيئة ريادة الأعمال، مما أدى إلى غياب الوعي حول الإمكانيات الحقيقية التي يمكن أن توفرها المشاريع الناشئة في تحفيز النمو الاقتصادي. ونتيجةً لذلك، أُثقل كاهل القطاع الحكومي بعدد هائل من الموظفين، دون وجود حلول اقتصادية مستدامة.

لكن التغيرات المفاجئة التي فرضتها الظروف السياسية والاقتصادية شكلت درسًا قاسيًا ومشتركًا للجميع: أفرادًا، ومؤسسات، وحتى الحكومة نفسها. مع بداية الحرب، وجد الكثير من اليمنيين أنفسهم مضطرين للبحث عن مصادر دخل بديلة، فانطلقوا إلى تأسيس مشاريع صغيرة بطرق عشوائية في البداية. ومع مرور الوقت، اكتسبت هذه المشاريع طابعًا أكثر تنظيمًا، وتحولت من مجرد وسائل للبقاء إلى نماذج ناجحة لريادة الأعمال. وقد لعبت وسائل التواصل الاجتماعي دورًا محوريًا في تعزيز هذا التحول، حيث ساعدت رواد الأعمال على تسويق أفكارهم ومنتجاتهم، والوصول إلى شريحة أوسع من العملاء. كما بدأ الرياديون في البحث عن مصادر تمويل مبتكرة مثل التمويل الجماعي، ومؤسسات التمويل الأصغر، والاستثمارات الملائكية، مما أتاح لهم فرصة توسيع أعمالهم واختراق أسواق جديدة.

واليوم، نشهد في اليمن طفرة في المشاريع الريادية التي تغطي مجالات متعددة، بعضها لم يكن متصورًا في ظل الظروف الطبيعية. فمن المشاريع الناشئة في الذكاء الاصطناعي إلى مبادرات الطاقة المتجددة، ومن الصناعات التحويلية المحلية إلى المشاريع القائمة على الاقتصاد الأخضر، يُظهر رواد الأعمال اليمنيون قدرة هائلة على التأقلم والابتكار رغم التحديات. هذا التحول لم يكن خيارًا، بل كان ضرورة فرضتها الظروف القاسية، لكنه أصبح واقعًا لا رجعة فيه. فقد تجاوز اليمنيون النظرة التقليدية للعمل، وبدأوا في تبني ثقافة ريادة الأعمال كمسار مستدام للنمو الاقتصادي.

وفي ظل هذا التحول، يبرز سؤال جوهري: كيف يمكن تعزيز زخم ريادة الأعمال في اليمن وضمان استمراريته؟ تكمن الإجابة في نهج متكامل يستلزم تكاتف الجهود على مختلف المستويات، بدءًا من الحكومة، مرورًا بالقطاع الخاص، وصولًا إلى المؤسسات التعليمية والمالية.

دور الحكومة في دعم ريادة الأعمال

على الحكومة اليمنية أن تُدرك أن ريادة الأعمال ليست مجرد خيارٍ فردي، بل هي عنصر أساسي في استراتيجية التنمية الاقتصادية. ولتحقيق ذلك، لا بد من العمل على تحسين البيئة التشريعية والتنظيمية للمشاريع الناشئة، عبر تسهيل الإجراءات القانونية، وتقليل البيروقراطية، وتقديم حوافز ضريبية للشركات الصغيرة والمتوسطة. كما أن إطلاق برامج دعم وتمويل حكومية لرواد الأعمال سيساهم في توفير رأس المال اللازم لإنجاح المشاريع الناشئة. بالإضافة إلى ذلك، يجب التركيز على تطوير البنية التحتية الرقمية، نظرًا لأن العديد من المشاريع تعتمد على التكنولوجيا والاتصال بالأسواق العالمية.

دور القطاع الخاص في دعم ريادة الأعمال

يلعب القطاع الخاص دورًا حاسمًا في تعزيز ثقافة ريادة الأعمال من خلال بناء شراكات استراتيجية مع المشاريع الناشئة. يمكن للشركات الكبرى دعم رواد الأعمال من خلال دمجهم في سلاسل التوريد الخاصة بهم، وتوفير فرص التدريب، والاستثمار في الابتكارات المحلية. كما أن تشجيع ثقافة الابتكار داخل الشركات الكبرى يسهم في دفع عجلة النمو الاقتصادي، ويخلق بيئة تنافسية تُحفّز الرياديين على تقديم حلول مبتكرة.

دور المؤسسات التعليمية في نشر ثقافة ريادة الأعمال

تلعب الجامعات والمدارس دورًا جوهريًا في ترسيخ مفاهيم ريادة الأعمال منذ المراحل التعليمية المبكرة. يجب إدراج مناهج تعليمية تركز على التفكير الإبداعي، وإدارة المشاريع، والتخطيط الاستراتيجي، كما ينبغي تعزيز الشراكات بين المؤسسات الأكاديمية ورواد الأعمال لخلق بيئة تعليمية عملية تُساعد الشباب على دخول سوق العمل بمشاريعهم الخاصة بدلاً من الاعتماد فقط على التوظيف التقليدي.

أهمية التمويل والتسهيلات المالية للمشاريع الناشئة

تمثل مسألة التمويل أحد أكبر التحديات التي تواجه رواد الأعمال في اليمن. ولذلك، من الضروري أن تعمل مؤسسات التمويل على تسهيل الحصول على القروض وتقديم حلول تمويلية مرنة تتناسب مع طبيعة المشاريع الصغيرة. كما أن تعزيز ثقافة التمويل الجماعي، وتمكين المستثمرين الملائكيين من دعم الشركات الناشئة، سيساعد في سد الفجوة التمويلية التي تعيق نمو المشاريع الواعدة.

استراتيجيات لتعزيز ريادة الأعمال في اليمن

  1. إنشاء حاضنات ومسرعات أعمال: يجب تأسيس مراكز دعم لرواد الأعمال تُوفر لهم التدريب والاستشارات، بالإضافة إلى المساعدة في تأمين التمويل.
  2. تعزيز التجارة الإلكترونية: نظرًا للدور المتزايد للتجارة الإلكترونية، يجب تحسين البنية التحتية الرقمية، وتشجيع المشاريع الناشئة على تبني استراتيجيات تسويقية إلكترونية.
  3. تمكين المرأة في ريادة الأعمال: لا بد من توفير دعم خاص لرائدات الأعمال، نظرًا لدورهن المحوري في تعزيز التنمية الاقتصادية.
  4. تعزيز الوعي القانوني: يواجه العديد من رواد الأعمال تحديات قانونية تتعلق بالتراخيص والضرائب، لذا فإن نشر الوعي حول القوانين والتشريعات التجارية يُعد ضروريًا لضمان نمو المشاريع بشكل قانوني ومستدام.

مستقبل ريادة الأعمال في اليمن

نحن اليوم أمام فرصة تاريخية لإحداث تغيير جوهري في سوق العمل اليمني. فإذا تكاتفت الجهود بين الأفراد، الحكومة، والمؤسسات المحلية والدولية، فإن ذلك سيُسهم في تحقيق نقلة نوعية تنعكس إيجابيًا على الاقتصاد والمجتمع ككل. لم تعد ريادة الأعمال مجرد خيار فردي لمن يبحث عن مصدر دخل، بل أصبحت جزءًا من ثقافة المجتمع اليمني، الذي يواجه التحديات بالإبداع والابتكار.

ختامًا، يمكن القول إن الاقتصاد اليمني يحتاج إلى تحول جذري في طريقة التفكير حول العمل والاستثمار. ريادة الأعمال ليست مجرد بديل عن الوظائف الحكومية، بل هي مفتاح لتحقيق التنمية المستدامة، والاستقلال المالي، والازدهار الاقتصادي. ومع تضافر الجهود، يمكن أن تتحول المشاريع الناشئة إلى محركات رئيسية للنمو، تسهم في إعادة بناء اقتصاد أكثر قوة ومرونة، قادر على مواجهة التحديات، وفتح آفاق جديدة للأجيال القادمة.

شاركها.

باحثة بالجوانب الاقتصادية واستشارية في حوكمة الشركات ، غدير عضوة مجلس إدارة مستقلة معتمدة من كلاً من مؤسسة التمويل الدولية (IFC) والمعهد اليمني للمديرين (YIoD)، وتحمل شهادة البكالوريوس في نظم المعلومات والتجارة الالكترونية. وخلال الفترة 2017 وحتى 2023، ادارت نادي الاعمال اليمني (YBC) المنظمة الاقتصادية الابرز لدعم قضايا القطاع الخاص في اليمن، كما ادارت غدير كياناته المتمثلة في المعهد اليمني للمديرين الذراع المعني بالحوكمة ومركز دعم الأعمال المعني بدعم قطاع ريادة الاعمال. عبر نادي الاعمال، عملت غدير 9 سنوات عن قرب مع القطاع الخاص اليمني. وفي جانب الإصدارات، كانت ضمن فريق نشر دليل حوكمة البنوك مع كلاً مؤسسة التمويل الدولية والبنك المركزي اليمني، وادارت مشروع إصدار دليل حوكمة الشركات الصغيرة والمتوسطة في اليمن لمدة عامين، كما عملت كمسئول لمشروع التنافسية العالمي باليمن لست سنوات مع المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) بالإضافة الى تقريري المخاطر العالمية وأسواق الغد.

اترك تعليقاً